24 كانون الأول 2025
قال المرصد العراقي لحقوق الإنسان (IOHR) إن التطورات الأخيرة في عدد من المحافظات تكشف عن مسار مقلق يتجه نحو تضييق متزايد على حرية التعبير، عبر استخدام أدوات قانونية وإدارية لمعاقبة الرأي السلمي، والنشاط الحقوقي، والنقد الوظيفي، والمواقف السياسية، في مؤشر واضح على تراجع خطير في الضمانات الدستورية للحريات العامة.
ويرى المرصد أن هذه القضايا، على اختلاف أطرافها وسياقاتها، لا يمكن التعامل معها كحوادث منفصلة أو استثنائية، بل تشكّل بمجملها نمطاً متكرراً يعكس خللاً بنيوياً في كيفية فهم وتطبيق حرية التعبير داخل مؤسسات الدولة، وفي العلاقة بين السلطة والرأي العام، حيث يجري الانتقال تدريجياً من حماية الرأي إلى معاقبته.
البصرة: إعادة فتح قضية منتهية واستخدام القانون كأداة ردع
في محافظة البصرة، وثّق المرصد توقيف مدير مركز العراق لحقوق الإنسان، علي العبادي، بعد مراجعته جهاز الأمن الوطني، حيث جرى إبلاغه بوجود مذكرة قبض بحقه وفق المادة (433) من قانون العقوبات العراقي.
وبحسب إفادة منسوبة له، فإن الدعوى المقدّمة ضده تعود إلى لواء 41 التابع لهيئة الحشد الشعبي، على خلفية تداول مناشدة لشخص ادّعى تعرّضه للتعذيب. ويؤكد العبادي أن القضية كانت قد أُغلقت قانونياً منذ شباط 2025، قبل أن يُعاد تحريكها لاحقاً دون الإعلان عن أسباب قضائية جديدة أو وقائع مستجدة.
ويشير المرصد إلى أن إعادة فتح قضايا سبق حسمها تمسّ أحد أهم مبادئ العدالة الجنائية، وهو مبدأ استقرار المراكز القانونية، الذي يُفترض أن يوفّر للأفراد حماية من الملاحقة المتكررة عن الفعل ذاته. كما يرى أن استخدام المادة (433)، الخاصة بالسبّ والقذف، في سياقات تتعلق بنقل ادعاءات عن تعذيب أو انتهاكات محتملة، يثير إشكاليات قانونية جسيمة، خصوصاً أن المعايير الدولية لحقوق الإنسان تشدد على أن التعبير المتعلق بالشأن العام يجب أن يتمتع بحماية معززة، وأن أي نزاع بشأنه ينبغي أن يُنظر فيه – إن وُجد – ضمن المسار المدني لا الجزائي.
وفي هذا السياق، قال رئيس المرصد العراقي لحقوق الإنسان مصطفى سعدون إن “ما نشهده اليوم هو توسّع في اللجوء إلى الأدوات الجزائية لمعاقبة الرأي، وليس لمعالجة ضرر حقيقي. المشكلة لم تعد في النصوص الدستورية، بل في طريقة تفسير القوانين واستخدامها كوسيلة ردع”.
وأضاف أن “إعادة تحريك قضايا منتهية يبعث برسالة خطيرة لكل من يعمل في مجال حقوق الإنسان أو الصحافة مفادها أن الحسم القانوني لا يعني نهاية الخطر".
العقوبة الإدارية: حين يتحول النقد الوظيفي إلى مخالفة
وفي مسار مختلف من حيث الشكل، لكنه متقاطع في المضمون، تابع المرصد فرض عقوبة إدارية بحق الموظف عقيل الراشد، على خلفية تعليق نشره عبر موقع فيسبوك انتقد فيه تأخر صرف مخصصات الخطورة في شركة ابن ماجد العامة، إضافة إلى التفاوت في الامتيازات بين الموظفين.
ويرى المرصد أن معاقبة موظف بسبب تعبيره عن مطالب وظيفية أو اعتراضه على سياسات إدارية يمثّل انتهاكاً لحرية التعبير داخل بيئة العمل، ويحوّل المؤسسات العامة إلى فضاءات مغلقة لا تحتمل النقد، ويقوّض مبدأ الشفافية والمساءلة الذي يُفترض أن يحكم العمل الإداري.
وفي هذا الإطار، قال ناشط حقوقي إن “معاقبة الموظفين على آرائهم، حتى عندما تكون مرتبطة بحقوقهم الوظيفية، تدفع الجميع إلى الصمت، وتخلق ثقافة خوف داخل المؤسسات”. وأضاف أن “الخطورة لا تكمن في القرار بحد ذاته، بل في الرسالة التي يرسلها: التزم الصمت أو تحمّل العواقب".
بغداد: الرأي السياسي أمام القضاء الجزائي
وفي بغداد، اتخذ ملف حرية التعبير بعداً قضائياً أكثر وضوحاً، مع صدور حكم بالسجن ثلاث سنوات بحق الأكاديمي ضياء العزاوي وزميله سنان الشمري، على خلفية بيان عبّرا فيه عن مواقف سياسية تتعلق باستعادة السيادة ورفض التدخل الخارجي.
ويؤكد المرصد أن هذا الحكم أثار قلقاً واسعاً في الأوساط الحقوقية، لما يحمله من دلالات تتعلق بتجريم الرأي السياسي، وغياب الخط الفاصل بين التعبير المكفول دستورياً وبين الأفعال التي يمكن أن تُعد جرائم وفق القانون.
وقال صحافي في هذا السياق إن "المشكلة لم تعد فقط في صدور أحكام، بل في غياب معايير واضحة. لا أحد يعرف أين ينتهي حقه في التعبير وأين تبدأ المخاطرة القانونية”. وأضاف أن “هذا الغموض بحد ذاته أصبح أداة ترهيب، تدفع الصحافيين والناشطين إلى الرقابة الذاتية".
الإطار الدستوري والدولي: نصوص تُفرّغ من مضمونها
ويشير المرصد إلى أن المادة (38) من الدستور العراقي تنص صراحة على ضمان حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، كما أن العراق ملتزم بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ولا سيما المادة (19) منه، التي تكفل حرية الرأي والتعبير ولا تجيز تقييدها إلا بشروط صارمة تتعلق بالضرورة والتناسب، وبما لا يمس جوهر الحق. كما تؤكد التفسيرات الصادرة عن اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن التعبير عن الرأي السياسي، حتى عندما يكون حاداً أو ناقداً للسلطات، يجب أن يتمتع بأعلى درجات الحماية.
ويرى المرصد العراقي لحقوق الإنسان أن ما يجري اليوم يعكس توسعاً في استخدام أدوات الدولة لمعاقبة التعبير السلمي، سواء عبر مذكرات قبض، أو عقوبات إدارية، أو أحكام سالبة للحرية، وهو ما يحوّل النصوص القانونية من أدوات لحماية النظام العام إلى وسائل للإسكات، ويُنتج بيئة عامة تقوم على الخوف والرقابة الذاتية.
أثر أوسع على المجتمع والدولة
ويحذّر المرصد من أن استمرار هذا النهج لا يضر فقط بالأفراد المتأثرين مباشرة بهذه الإجراءات، بل ينعكس على المجتمع ككل، من خلال إضعاف دور المجتمع المدني، وتقييد النقاش العام، وإفراغ الفضاء الوظيفي والإعلامي من أي نقد بنّاء، بما يقوّض أسس أي مسار ديمقراطي حقيقي.
وأكد المستشار الإعلامي للمرصد وسام الملا أن “كل يوم يمر دون معالجة جذرية لهذه القضايا هو رسالة مزدوجة: رسالة خوف لمن يريد أن يتكلم، ورسالة طمأنة لمن يستخدم النفوذ لإسكات الآخرين".
ويؤكد المرصد العراقي لحقوق الإنسان أن حرية التعبير لا تُقاس بعدد المنصات الإعلامية أو مواقع التواصل المتاحة، بل بمدى حماية الأفراد من الملاحقة عندما يستخدمون هذه المنصات للتعبير السلمي عن آرائهم أو للمطالبة بحقوقهم.
ويدعو المرصد السلطات القضائية إلى مراجعة هذه القضايا وفق معايير المحاكمة العادلة، وضمان عدم استخدام القوانين الجزائية لمعاقبة التعبير المشروع، كما يدعو السلطتين التنفيذية والتشريعية إلى مراجعة النصوص القانونية الفضفاضة التي تُستخدم لتجريم الرأي، والعمل على مواءمة التشريعات الوطنية مع التزامات العراق الدولية.
ويختتم المرصد بالتأكيد على أن حرية التعبير ليست امتيازاً تمنحه السلطة متى شاءت، بل حق أصيل للمواطن، وأن المساس بها عبر القضاء أو الإدارة يُعد مؤشراً خطيراً على تراجع سيادة القانون، ورسالة سلبية للمجتمع مفادها أن التعبير قد يُقابل بالعقاب بدل الحماية.