نُشر في موقع ألترا صوت
قمعتُ أحمد فلاح، رسام الكاريكاتير، أكثر من مرّة حتّى لا ينشر بعض رسوماته الكاريكاتيرية. مارستُ عليه رقابة صارمة، فرضت عليه في البداية أن يُريني الرسوم قبل نشرها على صفحته في فيسبوك أو هنا في "ألترا صوت". وصار بعدها لوحده يُرسل إليّ ما يرسم، أسمح بنشر الكثير وأمنع القليل. ليست لديّ سلطة عليه سوى الخوف علينا وأقصد عائلته وعائلتي في بغداد.
أحمد ابن عمّتي، ووالده قريب والدي، علاقة العائلتين متشابكة، لكن هذا غير مهم. لدينا، أحمد وأنا، ألبومات صور منذ كنا نحبو وحتّى صرنا شابين لهما علاقة بالأدب أو الفن. مررنا بالكثير، عملنا في النجارة أنا وهو، خضنا قتالات عنيفة أثناء الطفولة في الشوارع مع أطفال آخرين. كنا نمارس على بعضنا السلطة بدافع الحب، أما اليوم، فالخوف وحده من يجعل سلطتنا أكثر ضراوة، وأشدّ تمسكًّا بالآراء.
لم أكن جبانًا من قبل، كل كائن في هذه الأرض معرّض للموت، ألف سبب للموت وأسباب قليلة للنجاة. إلا أني صرت أتمسّك بشحة أسباب النجاة. لم أعد أتخيّل تعرّض أحد لأذى من عائلتي أو عائلة أحمد. هو فنان جريء، وشجاع، لا يميل إلى جهة، يوزّع نقده اللاذع على الجميع، نتشابه في هذا أيضًا، إلا أنّه بعيد، حيث يقيم على أرض تفصلها آلاف الكيلومترات عن هذا السجن الذي تتورم غيلانه وتزداد توحشًّا وتأخذ المساحة الكبيرة وتحشرنا نحن في الزوايا. أحمد يعي أن مجساته في تقدير الأمور الجالبة للخطر ليست سليمة.
جُلّ ما كرهته يومًا فِعل الرقابة، وها أنا اليوم أمارسها ليس على ذاتي فحسب، وإنما على أحمد أيضًا، ومجموعة من الأصدقاء الآخرين الذين أُلاحق منشوراتهم على فيسبوك أو تويتر وأنقحّها وأصر على حذف بعضها في الكثير من الأحيان. فسحة الحياة تضيق. الكلام يضيق، والموت يتسعُ. ومثلما أُمارس الرقابة تُمارس عليَّ، ففي الأسبوع الماضي نشرت هنا مقالًا عن الروزخونات الذين يزيدون المجتمع تخلّفًا بصراخهم وتحريفهم للتاريخ، بزرعهم الفتن، وكان أوّل تعليق عليه من صديق عبر رسالة: "أنت رايح زايد". هذه جملة عراقيّة مغرقة في المحليّة، تعني أنك ذهبت أبعد مما يجب في الانتقاد.
لم أضع المقال على صفحتي في فيسبوك كما أفعل عادة. خفتُ، وكان الخوف في محلّه، فسرعان ما وصلت إلي رسالتان تقرّعني على مقالتي، وتتهمني بالطبع بالتهمة الجاهزة المعلبة.. الطائفية، وتحذرني من الذهاب أبعد في الكتابة بهذا النمط. ورغم أني من عائلة مختلطة الطوائف، ولا أنتمي إلى أي من مجانين الطائفتين، إلا أن تهمة "الطائفية" تلاحقني بسبب اسمي.
والحال هذه، فإن البلاد تفقد كل شيء. الوعود تثبت زيفها، والرفاه الذي يوعد به العراقيون سرعان ما يتبيّن أنه محض سراب. آلاف الجثث لا يعرف أحد قتلتها. مئات الصحفيين المفقودين، والكثير من المخطوفين، والتهديدات في أوجها. الجميع يُمارس السلطة على الجميع طالما أن "الدولة" لا تفكّر باحتكار السلطة والعنف، كما هي مهمتها، بل منشغلة باحتكار السرقة والإثراء غير المشروع على حساب الناس.
يقع العراق اليوم في ذيل الدول ضمن قائمة حريّة التعبير. بغداد من أسوأ المدن الصالحة للعيش. العراق يتصدّر الدول الأكثر تخلّفًا في معدلات الفساد ضمن تصنيف تقارير منظمة الشفافية الدولية. التعليم والصحّة في تراجع. أرقام كلّها مخيفة، لكن الجرأة في الكتابة والرد والنقاش في أمور كهذه في الكثير من الأحيان يتحوّل إلى انتحار.
يُعيب الكثير عليّ هذه النبرة اليائسة في الكتابة، يعيبون غياب الأمل، الأمر الذي دفعني إلى إنفاق جزء من الرقابة اليومية على الذات في الأسابيع الأخيرة بدفع من هذا الاتهام، ولا شيء فعليّ وجدته يدعو إلى التفاؤل، لا شيء يحصل إلا ويُدمَّر، حتّى المسرات الصغيرة التي نخلقها نحن معرّضة للتهديد.
في الواقع، التعبير بات قاتلًا. يَتهَدّد الزملاء يومًا بعد آخر، والجناة في حياتنا صاروا يتفنّنون بجعلنا نتخيّل مصائر لم يفكّروا بها حتّى. نحن نزداد خوفًا، والجناة بأيامنا يزدادون سمنة جرّاء أكل أعمارنا.