العراق: أحوال شخصية ام تكريس لظاهرة السلطة الموازية؟
7-08-2024, 21:55



نقلاً عن صحيفة المدى
حارث حسن



واجهت معظم الدول الإسلامية الحديثة إشكالية التناقض بين مبادئ وأحكام الفقه الإسلامي (الذي يستخدم خطأً باعتباره مطابقًا للشريعة)، وبين المبادئ التي تقوم عليها الدولة الحديثة. يتعلق الأمر بمسألة شرعية هذه الدولة، والتي تقوم على افتراض أنها تمثل جماعة المواطنين (لا جماعة المؤمنين)، الأمة بحدودها الجغرافية لا الأمة بحدودها العقائدية، وأن هذه الدولة مسؤولة – نظريًا في الأقل – عن حماية الخير العام وتمثيله عبر قوانينها ولوائحها. في معظم تلك الدول جرى تكييف الفقه الإسلامي لينسجم مع حقيقة وجود الدولة الحديثة، حتى في إيران الإسلامية نفسها (جادل أوليفر روا في إحدى مقالاته بأنّ الجمهورية الإسلامية نفّذت نوعًا من العلمنة من خلال سيطرتها على المجال الديني وتأكيد السلطة العليا للدولة داخليًا). لذلك من اللافت أنه بدلًا من أن تعبر النزعة المحافظة لنواب "الإطار التنسيقي" عن نفسها اليوم، كما يحدث في بلدان أخرى لديها تيارات إسلامية قوية، بمحاولة تعديل بعض بنود القانون في سياق شرعية الدولة، فإن ما يفعله التعديل المقترح في البرلمان هو الطعن بشرعية الدولة وحقها في تنظيم شؤون مواطنيها، بتحويل سلطتها في الأحوال الشخصية وتنظيم الأسرة إلى الفقهاء باعتبارهم – وفق فهم هؤلاء النواب – يمتلكون شرعية أصيلة في شؤون الأسرة والزواج والميراث، شرعية يستمدونها من النسق العقائدي الذي يستندون عليه بوصفهم "نواب الإمام".


المفارقة هنا أن نوابًا في البرلمان (وهو البرلمان الأقل تمثيلية بعد 2003 بسبب محدودية مشاركة الناخبين والإشكالية الناتجة عن ملء مقاعد نواب التيار الصدري بنواب خسروا الانتخابات) يشتقون سلطتهم من دستور الدولة الحديثة، لكنهم بتبني هذا التعديل إنما يقوضون سلطة هذه الدولة وشرعيتها، بشكل يعكس بوضوح التناقض الكامن لدى معظم الإسلاميين والمتدينين الشيعة، بين رغبتهم "الجماعاتية" بالسيطرة على الدولة ومؤسساتها، وبين قناعتهم العقائدية بلا شرعية هذه الدولة.


قانون 1959 ليس مجرد قانون للأحوال الشخصية، بل هو تعبير عن منطق الدولة الحديثة الذي يجعل منها المشرع الأول والمنفذ الأول للقانون عبر محاكمها وهيئاتها واحتكارها لأدوات "الإرغام المشروع"، وقد استند عند صياغته على تراكم طويل من العمل سبق مجيء حكومة عبد الكريم قاسم، وقام على تراث من الفقه القانوني الحديث في بلدان إسلامية أخرى، واشتق أحكامه من المدونات الفقهية الإسلامية بمختلف مذاهبها (ومن بينها المذهب الجعفري)، وفق رؤية "تقدمية" نسبيًا تنسجم مع ظروف العصر الحديث. التحول الأساسي الذي عبّرت عنه عملية سنّ قانون للأحوال الشخصية هو أن الدولة، لا الفقيه ولا شيخ العشيرة ولا رب الأسرة، هي التي تمتلك سلطة صياغة القانون وتطبيقه، الأمر الذي اعتبره معظم الفقهاء "الشيعة" اعتداءً على مساحة حركتهم المستقاة من مفهوم للشرعية يعود إلى ما قبل الدولة الحديثة.


لا ننسى هنا أن السلطة الاجتماعية لهؤلاء الفقهاء (خلافًا لنظرائهم السنة) تشكلت عبر قرون من العمل المستقل عن – والمتشكك بـ - السلطة السياسية، وأنّ موقفهم المرتاب من الدولة وشرعيتها دفعهم إلى التركيز على مجالات فقهية محددة، من أبرزها المعاملات المتعلقة بالأحوال الشخصية والإرث والتي مثلت حقلاً أساسيًا لعملهم وتأثيرهم الاجتماعي. لكن سلطتهم تلك أخذت تهددها التحولات الناتجة عن الحداثة والعلمنة واختراقهما المجتمعات واستجلابهما مفاهيم جديدة للسلطة والشرعية. 


لم يكن رفض كبار رجال الدين الشيعة للقانون متصلاً فقط برؤيتهم للمدونة الفقهية كنسق متكامل لا يمكن تجزئته ويعبر عن إرادة المشرع (الله)، تلك الإرادة المؤولة والمقننة عبر الفقهاء، بل كان أيضًا اعتراضًا على منطق الشرعية الذي تقوم عليه الدولة الحديثة ككيان قانوني – جغرافي، وولايتها على "المواطنين" في مقابل ولاية الفقهاء على "المؤمنين". عبّر القانون عن مسعى الدولة الحديثة لاختراق المجتمع وإعادة تشكيله لينسجم مع واقعها القانوني والجغرافي، بينما عبّرت معارضته المستمرة حتى اليوم وسط الجماعة الدينية والتيارات الإسلامية الشيعية عن شكٍ عميق بشرعية هذه الدولة وحقها في الولاية، وبفكرة "المواطنة" المتضمنة فيها.


قدّم قانون 1959 صياغات لإمكانية التزاوج بين الفقه القانوني الحديث والفقه الإسلامي، تحت سقف علوية الدولة وشرعيتها، لكن ما يسعى إليه نواب "الإطار التنسيقي" اليوم في تعديلهم المقترح هو التأكيد على ازدواج الشرعية، بشكل ينتج سياقين متوازيين للسلطة: سياق الدولة الحديثة (الذي تُرك لمن يريد الالتزام به)، وسياق سلطة الفقهاء، أي أنهم خلافًا للنموذج الإيراني الذي ذهب للمطابقة بين السلطتين عبر مبدأ ولاية الفقيه العامة، يريدون التمييز بين ولاية الدولة وولاية الفقيه ضمن الفضاء الجغرافي – الاجتماعي الواحد، وشحن التنافس بين الولايتين، وكأنهما سلطتين متوازيتين على الأحوال الشخصية، كما فعلوا مع المجال الأمني – العسكري حيث أنتجوا سلطتين متوازيتين، واحدة عقائدية أيديولوجية تشتق شرعيتها من العصبية الشيعية (التي قد تكون عابرة للحدود)، وأخرى دولتية تعتمد في وجودها على شرعية الدولة الحديثة.