مصطفى سعدون
منذ نحو عشر سنوات والسلطة التشريعية في العراق مدعومة بإرادة سياسية، تسعى إلى إقرار مشروع قانون يُسمى "الجرائم الإلكترونية"، الذي كان اسمه سابقًا "الجرائم المعلوماتية". بدأت فكرة المشروع بعد مضيّ سبع سنوات تقريبًا على التغيير، الذي حصل في العراق عام 2003، والذي يُفترض فيه أنه نقلنا من مرحلة النظام الديكتاتوري الشمولي، إلى النظام الديمقراطي التعددي، لكن يبدو أن ذلك لم يتحقق. لقد اتفقت مكونات العملية السياسية في العراق رغم اختلافاتها، على تشريع هذا القانون. فهي تعتقد أنه عامل مشترك بينها، يَمنع أي انتقاد يوجَّه إليها من مواطنين ونشطاء وصحفيين. لذا، سعت إليه.
يسعى المشرّع العراقي من خلال مسوَّدة مشروع القانون، إلى إيجاد بيئة أقل مساحة من الموجودة، تُضيّق الحريات على الصحفيين والنشطاء، في محاولة لدفعهم إلى التراجع عن انتقاد السلطة والزعامات السياسية. بدأت فكرة تشريع القانون في زمن حكومة نوري المالكي الثانية (2010 – 2014)، عندما أريد تحييد النشطاء والصحفيين عن انتقاد حكومته خلال احتجاجات عام 2011، التي تزامنت مع أحداث الربيع العربي.
كما الحال في أغلب القوانين العراقية، تُعاني مسوَّدة هذا القانون مشاكل في المصطلحات والتعريفات. وفي أغلب الأحيان، لا تُعرِّف -برأيي- بعض ما تطرحه، وقد تجعل المصطلحات عمومية، من الممكن أن يُترك تقدير تفسيرها للقاضي، وقد يُظلم بسببها الآلاف. مثلًا: تنص الفقرة الرابعة من المادة 8 من مسودة مشروع القانون على أنه: "يعاقَب بالسجن مدة لا تقل عن سبع سنوات ولا تزيد على عشر سنوات، وبغرامة لا تقل عن (8 آلاف دولار) ولا تزيد على (12 ألف دولار)، كلُّ مَن استخدم الشبكة المعلوماتية أو أحد أجهزة الحاسوب وما في حكمها، بقصد الاعتداء على المبادئ والقيم الدينية أو الأسرية أو الاجتماعية". هذه الفقرة تعاني مشاكل عديدة. فما "المبادئ والقيم الدينية والأسرية والاجتماعية"؟ وهل تشمل كل الديانات أم الدين الإسلامي فقط؟ ومَن يحدد هذه "المبادئ والقيم"؟ وأين تعريفاتها؟
عودة أطراف سياسية للدفع باتجاه تشريع القانون في مجلس النواب، أتت متزامنة مع ارتفاع مستوى الاحتجاجات في العراق، في التظاهرات أو في مواقع التواصل الاجتماعي. لا يمكن وصف مسودة مشروع القانون الحالية، إلا بأنها عودة سريعة إلى نظام الديكتاتورية، الذي يُشَرعن القمع والتقييد وتكميم الأفواه. ففي وقت يسعى فيه العراقيون إلى تشريعات تحمي الحريات، يجدون أنفسهم أمام قانون يُعيدهم إلى حقبة ما قبل سنة 2003. المشكلة أن القانون لا يستهدف النشطاء والصحفيين فحسب، بل جميع العراقيين الذين تتعالى أصواتهم في الساحات وفي الإعلام التقليدي ومواقع التواصل الاجتماعي، انتقادًا واحتجاجًا على تردِّي الأوضاع في البلد. مثلًا: لو أن أحدهم دعا عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى تنظيم وقفة احتجاجية ضد زواج القاصرات، لَاعتُبِر هذا ضِمن الفقرة الرابعة من المادة الثامنة، باعتباره "اعتداءً" على القيم الاجتماعية.
القانون المكون من (31) مادة، فيه (21) مادة تتضمن عقوبات سالبة للحرية، التي تتفرع إلى (63) حالة يخضع فيها المواطن لعقوبات بحسب التوصيف الوارد للقانون، من بينها (10) حالات تقضي بالسجن المؤبد مع غرامة مالية تُراوح بين (25) و(50) مليون دينار، بحسب الخبير القانوني زهير ضياء الدين. ووفقًا له أيضًا، هناك (25) حالة تقضي بالسجن المؤقت مع غرامة مالية تُراوح بين عشرة وثلاثين مليون دينار (22 ألف دولار تقريبًا)، إضافة إلى (28) حالة أخرى تقضي بالحبس أقل من (5) سنوات، مع غرامة تُراوح بين (2) و(30) مليون دينار.
مَساعي المُشرع العراقي الحالية، تُنافِي المادة 38 من الدستور العراقي، التي تكفل في فقرتها الأولى: "حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل"، وتُنافِي ما وقَّع العراق عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1966، الذي يكفل لكل شخص حرية التعبير وفق المادة 19. تَعرف الطبقة السياسية العراقية أنها لن تتمكن من إيقاف الانتقادات الموجهة إليها، لكنها ستجد من جَرَّاء هذه المسودة التي تريد تشريعها، عددًا ليس بالقليل من الصحفيين والنشطاء في السجون، لـ"يكونوا عبرة" للآخرين.
لا يُلبي القانون أي حاجة مجتمعية، بل هو درع للنخب السياسية، يَقِيها من أي انتقادات قد تطُولها من قِبل النشطاء والصحفيين، حتى المواطنين. فهو قانون تقييدي بَحْت ليس تنظيمي، ولو ركز على الجيوش الإلكترونية والحسابات الوهمية، التي تبث المعلومات المضلِّلة وتُحرض على الكراهية، لكنّا أول الداعمين له، لكنه يا للأسف، تَجاهَل أكثر ما يُمكن أن ينفع المجتمع.