في العراق، لم تعد الكاميرا وحدها تقلق الفاسدين، بل أصبحت بحد ذاتها شبهة، وصار الصوت الصحفي تهمة قائمة بذاتها. لم يعد كشف الحقيقة فعلًا مهنيًا طبيعيًا، بل سببًا للمساءلة والعقاب. خلال السنوات الأخيرة، انقلبت المعادلة؛ فالقانون الذي يفترض أن يكون درعًا يحمي الصحافة، تحوّل إلى سلاح مشهر بوجهها، وسيف مرفوع في وجه كل من يقترب من الخطوط غير المعلنة.
كصحفي ميداني، بنيت عملي دائمًا على الوقائع: شهادات الناس، الوثائق، والصورة المباشرة. لكن ذلك لم يكن كافيًا ليكون مظلة حماية. تقارير عن إهمال طبي، وأخرى عن ملفات فساد واضحة، كانت كفيلة بأن تفتح عليّ أبواب المحاكم. بين استدعاء وآخر، بدأت الأسئلة تختلط: هل ما زلت أنا من يسأل؟ أم أصبحت أنا من يُستجوب؟ هل أنا من يوثق الحقيقة؟ أم من يُعاقب لأنه اقترب منها أكثر مما ينبغي؟
في غضون عام واحد فقط، واجهت دعاوى قضائية رفعتها جهات رسمية، بينها وزارات، لا لشيء سوى أنني مارست عملي. والأكثر فداحة أن بعض تلك القضايا رُفعت بعد تقارير موثقة، بعضها بُثّ على الهواء مباشرة، لا يحتمل التأويل أو الاجتزاء. إحدى هذه الدعاوى استندت إلى تهمة التشهير وفق المادة 433 من قانون العقوبات، وهي مادة باتت تُستخدم كسلاح جاهز لإسكات من يكتب الحقيقة، لا من يختلقها.
الخوف اليوم أصبح جزءًا من تفاصيل العمل الصحفي. الخوف من رنين الهاتف، من تبليغ قضائي مفاجئ، من دعوى مجهولة بتهم فضفاضة مثل تشويه السمعة أو نشر أخبار كاذبة. أعرف صحفيين غادروا الميدان نهائيًا. أعرف من حذفوا أرشيفهم الرقمي، ومن يكتبون بأسماء مستعارة، ومن يغادرون منازلهم مؤقتًا بعد كل تقرير حساس. أعرف زميلًا غيّر مكان سكنه بعد تغطية احتجاج في منطقته، وآخر تلقّى تهديدات عشائرية بعد تقرير عن تزوير عقود في مؤسسة محلية.
لم تعد السلطة بحاجة إلى رقابة مباشرة أو تعليمات مكتوبة. يكفي بلاغ واحد ومحام نشط، ليتحوّل الصحفي من ناقل للخبر إلى متهم في قاعة المحكمة. هكذا لم يعد القانون وسيلة لحماية حرية التعبير، بل أداة فعالة لإخماد الأصوات المستقلة، واحدة تلو الأخرى.
الصحافة في العراق لم تعد ساحة رأي ونقاش، بل حقل ألغام. من يخطو خطوة واحدة باتجاه الحقيقة، عليه أن يستعد لدفع ثمن قد يكون عمله، أو أمنه، أو حريته. وفي هذا المناخ، لا يخشى الصحفي فقدان وظيفته فحسب، بل يخشى فقدان اسمه، ومستقبله، وربما حياته.
المعادلة اليوم قاسية وبسيطة في آن واحد:
إن كتبت، ستلاحق.
وإن سكت، تخون المهنة.
